فئة القسم

مقالاتي [8]

طريقة الدخول

بحث

تصويتنا

قيم موقعي
مجموع الردود: 5

إحصائية


المتواجدون الآن: 1
زوار: 1
مستخدمين: 0




السبت, 2024-05-18, 3:39 PM
أهلاً بك ضيف | RSS
الامازيغ
الرئيسية | التسجيل | دخول
كتالوج المقالات


الرئيسية » مقالات » مقالاتي

الأمازيغ عبر التاريخ : نظرة موجزة في الأصول والهوية الحلقة الخامسة

الأمازيغ عبر التاريخ : نظرة موجزة في الأصول والهوية الحلقة الخامسة

الحلقة الخامسة

المصدر:

 

العربي عقون

الحوار المتمدن-العدد: 2650 - 2009 / 5 / 18 - 08:42

المحور: دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات

http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=172205

 

 

 

الأمازيغ يعرّبون أنفسهم

كان الدعاة سعيا منهم للوصول إلى قلوب السكّان في الأرياف وفي المدن، يحرصون على الدوام على أن يجعلوا من الأمازيغ -الذين كان تديّنهم عميقا- حماةً للإسلام، وكانت الأربطة مثالا لذلك فهي أديرة وثكنات عسكرية في نفس الوقت،وقاعدة عمليات ضدّ الكفّار أو محرّفي الدين، ويمكن أن يشيّد الرباط داخل البلاد مثل رباط تازة أو على الساحل، وباختصار في أيّ مكان يستدعي الدفاع عن الإيمان. لقد كان أولئك الجنود-الرهبان يقيمون في تلك الأبراج يتدرّبون على القتال ويتعلّمون أصول الدين بصرامة، وكان القرن التاسع العصر الذهبي للأربطة في أفريقيا حيث تعدّدت الأربطة من طرابلس إلى بنزرت وخاصّة على ساحل المزاق ، وأشهرها رباط المنستير الذي بني في 796 ورباط سوسة (821) وفي الجهة الأخرى من المغرب على الساحل الأطلنطي بنيت أربطة لضمان الدفاع عن الإسلام عسكريا ومذهبيا ضدّ حملات النهب النورماندية وضدّ الهرطقات الدينية كالتي ظهرت في قبيلة برغواطة (28).

 

كان أحد هذه الأربطة من تأسيس – في وقت متأخّر – الموحّدي يعقوب المنصور، وسيصبح عاصمة المملكة الشريفية والذي احتفظ باسم الرباط العاصمة الحالية للمملكة المغربية، وكانت أصيلا شمالا وآسفي وقوز وخاصّة ماسات (Massat) جنوبا تكمّل الدفاع الساحلي في المغرب الأقصى(29).

 

كان المرابطون عبّادا وأهل صلاة، ومصلحين ذوي فعالية، وكان هؤلاء من قبيلتي لمتونة وقزولة (Guezoula) الصنهاجيتين من الصحراء الغربية(30) تحت القيادة الروحية لعبد الله بن ياسين الذي أسّس رباطا في جزيرة بالسينغال، وكان في بداية القرن الحادي عشر مبدأ الإمبراطورية المرابطية، أمّا في المناطق غير المهدّدة ، فقد فقد الرباط طابعه العسكري ليصبح مقرّ رجال الدين الموقّرين، وقد ظهرت بسبب ذلك إخوانيات(Confréries) "مقلّدة" للأنظمة الدينية المسيحية (Ordres Religieux) وهي تبدو الآن في شكل مراكز للدراسات الدينية (زوايا) وهي وريثة للأربطة القديمة واختلطت هذه الحركة أحيانا بالتصوّف الشعبي (Maraboutisme) وقد لعبت الحركة المرابطية دورا كبيرا في أسلمة (Islamisation) الأرياف مع الإبقاء على بعض الممارسات العقائدية السابقة للإسلام التي لا تضرّ بالإيمان (31) .

 

لقد أكملت هذه الزوايا أسلمة المناطق النائية من بلاد البربر والتي دخلها الإسلام متأخّرا وليس ضمن مجموعات الأمازيغ الجبليين المستقرّة التي لعبت دورا هامّا في الإسلام الشمال أفريقي مثل كتامة في القبائل الشرقية (Kabylie Orientale) ومصمودة في الأطلس المغربي، بل عند كبار الرحّل في الهقار البعيد وفي الصحراء الجنوبية، ولعلّ إسلام التوارق كان بفعل دعاة وصلوا بلادهم منذ القرن الخامس عشر لا غير، أمّا الغريب فهو أنّ هناك بلدا أمازيغيا لم يسلم أبدا وهو جزر الكناري الذي بقي سكّانه الأصليون على الوثنية إلى الغزو النورماندي والاسباني خلال القرنين الرابع عشر والخامس عشر .

 

لم يمح إسلام الأمازيغ نهائيا آثار المسيحية في أفريقيا،وقد أشار بعض المؤرّخين والجغرافيين العرب إلى استمرار وجود كنائس أفريقية عدّة قرون بعد الفتح العربي وهو موضوع اهتمّ به المؤرّخون أخيرا، فالملاحظ أنّ الممالك الأفريقية التي تكوّنت خلال الاحتلال الوندالي والبيزنطي كانت في أغلبها مسيحية، وقد صرّح الملك ماستياس بمسيحيته وأشار ملك الأوكوتاماني (Ucutamani) [كتامة في الكتابات العربية] إلى أنّه خادم الله (Servus Dei) وكان بناة أضرحة الجدّار قرب فرندة مسيحيين أيضا، مثل الملك مازونا (ملك المور والرومان) في موريتانيا حوالي 508، ومثله الملك ماستياس الذي سكّ عملة حوالي 535 ، أمّا الوثنية فقد بقيت بين الرحّل الذين كانوا يعبدون الإله قورزيل، وتدلّ كلّ المعطيات على أنّ قسما كبيرا من قدامى البربر في المقاطعات الرومانية القديمة كانوا قد تنصّروا في القرن السادس، دلّ على ذلك آثار الكنائس في المدن، وكذلك المقابر والكتابات الجنائزية وخاصّة في وليلي (Volubilis) التي تعود إلى النصف الأوّل من القرن السابع (595-655) وآلطاوة التي تعود إلى القرن الخامس ومثلها في بوماريا وآلبولاي (Albulae) التي كانت ضمن مملكة ماسونا، ولا نريد هنا أن نخلص إلى أنّ سكّان المدن وحدهم هم الذين تنصّروا، فلقد كانت لقرى ومدن صغيرة في نوميديا كنائسها،وهناك نصوص تشير إلى عدد هامّ من الأمازيغ المسيحيين في القرن السادس [حوالي 570] مثل نصّ حنّا بكتار (Jean de Bictar) الذي يشير إلى تنصّر الغرامنت والمكّوريين(Maccurites)، كما أنّ البكري سجّل أنّه في العصر البيزنطي كان الأمازيغ على دين المسيح، واتّضح للمؤرّخين الآن بأنّ بقاء طائفة من المسيحيين في صميم الفترة الإسلامية عدّة قرون هو من الحقائق الأكيدة، فقد دلّت عليها نقوش القيروان التي تعود إلى القرن الحادي عشر،وكذا كتابات مقبرة عين زارة في إقليم طرابلس،كما أشار لويكي (LEWIKI) إلى استمرار وجود طائفة مسيحية ضمن المملكة الإباضية في تاهرت أوّلا ثمّ في وارجلان، وأبرشية في قسطيلية في الجنوب التونسي،وقد احتفظت المستشارية الحبرية بمراسلة البابا غريغوار السابع إلى أساقفة أفريقيين في القرن العاشر،وكانت الاحتفالات بالأعياد المسيحية قائمة في العهد الزيري، كما أشار البكري إلى وجود مسيحيين وكنيسة في تلمسان خلال القرن العاشر، كما وجد ما يدلّ على حجّ المسيحيين إلى شرشال القيصرية،كما أشار بعض الكتّاب إلى استمرار اللاتينية والمسيحية بأفريقية .

 

يبدو أنّ اختفاء آخر طائفة مسيحية تمّ في القرن الثاني عشر،ويبدو أنّ ذلك الاختفاء لم يكن طبيعيا بل كان نتيجة اضطهاد، فقد كان الخلفاء الموحّدون غير متسامحين، فبعد استيلائهم على تونس خيّر عبد المؤمن المسيحيين واليهود بين اعتناق الاسلام أو الموت بالسيف وفي نهاية القرن الثاني عشر كان حفيد عبد المؤمن: أبو يوسف يعقوب المنصور يفتخر بأنّه لم تبق في دولته كنيسة مسيحية واحدة(32).

 

اتّخذ التعريب مناحي عديدة، فقد كانت الأرضية مهيّاة له بوجوب نطق العديد من المفردات باللغة العربية لإعلان الانضمام إلى الإسلام، وكان التعريب خلال الفترة الأولى [القرن السابع إلى القرن الحادي عشر] لغويا وثقافيا وفي الأساس حضريا أي داخل المدن، فقد احتفظت مدن مغاربية قديمة (ذات تأسيس إسلامي، كتونس وتلمسان وفاس…) بلغة كلاسيكية كتذكار لذلك التعريب الأوّل، تلك العربية الحضرية ذات التأثّر ببناء الجملة الأمازيغية نجدها أيضا عند سكّان الساحل التونسي والساحل القسنطيني (قبائل الحدرة) وأيضا عند الطرارة (مسيردة) وعند الجبالة في الريف الشرقي، وحسب جورج مارسي (G. Marçais) فإنّ هذه المناطق الساحلية كانت منفذا لعواصم جهوية مستعربة منذ أمد بعيد، ويمثّل هذا الوضع نتائج للاستعراب الأوّل (33).

 

لا نعرف في الواقع الامتدادات الجغرافية بدقّة لهذا الشكل القديم للاستعراب الشمال أفريقي، فالمناطق الداخلية الممتدّة من الجنوب التونسي إلى الصحراء الغربية وإلى سهول الجزائر الوسطى والمنطقة الوهرانية إلى المغرب ذات تعريب بدوي بسبب اختلاط العنصر البدوي الهلالي بالقبائل الزناتية في القرن الحادي عشر الشيء الذي أدّى إلى تعريب قسم كبير من الأمازيغ.

 

ينبغي لفهم الوصول المفاجئ للعشائر الأعرابية أن نعود إلى القرن العاشر خلال العهد الفاطمي، حيث كان بربر زناتة قد وسّعوا نفوذهم في السهول العليا على حساب إخوانهم بربر صنهاجة الذين احتفظوا بالمناطق الجبلية الساحلية في الجزائر الوسطى والشرقية،وكانت إحدى القبائل الجبلية وهي كتامة قد استقبلت داعية شيعيًّا [أبو عبد الله الصنعاني] الذي بشّر بمقدم المهدي (المنحدر من فاطمة وعلي؟) وتمركز هذا الداعية في تازروت (ميلة) ونظّم ميليشيا مؤلّفة من أوائل أنصاره ثمّ ذهب إلى موقع حصين شرقي البابور هو "إيكجان" وتبيّن أنّ هذا الداعية استراتيجي كبير،فتمكّن من احتلال سطيف وباجة وقسنطينة، وأصبح الشيعة في 909 سادة القيروان، فأعلنت الدولة الفاطمية بقيادة المهدي عبيد الله الذي نجا من سجن أمراء سجلماسة له، وخلّصته حملة كتامية يقودها الداعية أبو عبد الله من الأسر ودخلت به القيروان منتصرة في ديسمبر 909، وفي طريقها دمّرت كلّ المواقع الرافضة للتشيّع، ونجحت القيادة الفاطمية المنحدرة من عبيد الله في السيطرة لفترة على القسم الأكبر من أفريقيا الشمالية، لكن زناتة المعتنقة لمذهب مختلف قامت بحركة ثورية خطيرة قادها فقيه أباضي هو مخلد بن كيداد المسمّى في الكتب العربية صاحب الحمار(34)(أبو يزيد)، ولولا تدخّل صنهاجة بقيادة زيري بن منّاد لانقرضت السلالة الفاطمية، وقد حفظ الفاطميون الجميل لصنهاجة، وعندما فتحوا مصر تركوا حكم الشمال الأفريقي لزعيمها بولوكّين بن زيري (973).

 

بعد ثلاثة أجيال تخلّى الزيريون عن المذهب الشيعي،وأعلنوا الانفصال عن الفاطميين (1045) لأنّ الشعب الأمازيغي أخذ يرفض تدريجيا مذهبا فُرض عليه بالقوّة، وفضّل الولاء للخليفة العبّاسي في بغداد، ولمعاقبة هذه الحركة الانفصالية، قام الخليفة الفاطمي بتحريض عشائر الأعراب المشاغبة ومن يدخل ضمنها من مغامرين على التوجّه إلى الشمال الأفريقي(35)، وكان أولئك الأعراب يعيشون بداوتهم في ناحية ساييس (Saïs) في صعيد مصر، وبدأ الزحف الكبير بأعراب هلال متبوعين بأعراب سُليم، ووصل هؤلاء إلى إفريقيّة (1051) ورغم الطابع الأسطوري لهذه الحركة في "تغريبة بني هلال"،إلاّ أنّ ابن خلدون قدّم لنا معلومات مفصّلة (36)، ويبدو أنّ المغامرة استهوت الكثير أثناء الزحف الكبير بما في ذلك مجموعات من اليهود الرحّل رافقت هؤلاء البدو ودعّمت الطوائف اليهودية في الشمال الأفريقي التي يعود أهمّها إلى أصول زناتية.

 

لا ينبغي الاعتقاد أبدا بأنّ حركة هؤلاء الأعراب كانت مثل جيش زاحف يحتلّ كلّ مكان يصل إليه أو أنّ هذه العشائر قاتلت الزيريين وإخوانهم الحمّاديين أو أنّها دخلت في مواجهة بين عرب وأمازيغ ذات طابع قومي أو عرقي، بل إنّ الأعراب دخلوا الشمال الأفريقي وتمركزوا في المناطق الخالية من السكّان ثمّ استجمعوا قواهم لنهب المدن تباعا، وبعد النهب يتفرّقون بعيدا حاملين معهم الغنائم التي نهبوها، وأصبح هؤلاء يحترفون النهب والسطو وقطع الطريق، ولذلك لم يتوان الملوك الأمازيغ: زيريون وحمّاديون وأخيرا موحّدون ومرينيون من استغلال هذه الروح القتالية، واستعمال هذه القوّة "العسكرية" الجاهزة في أغراض شتّى وحتّى ضدّ بعضهم، وبالتدريج أخذ هؤلاء الأعراب يتوزّعون في الأرياف(37).

 

منذ وصول هؤلاء الأعراب، فكّر الملوك الأمازيغ في استعمال هذه القوّة الجديدة في حروبهم ضدّ بعضهم البعض، وبعيدا عن التشنّج من دخول هؤلاء الأعراب الشما أفريقي، فإنّ الملك الزيري بحث عن تحالف معهم لمحاربة أبناء عمومته الحمّاديين، إلى درجة أنّه زوّج إحدى بناته بشيخ عشيرة رياح، ومع ذلك فإنّ هؤلاء الأعراب حاربوا الزيريين مرّتين في 1050 وفي 1052 في القيروان ونشروا الفوضى في كلّ مكان، وأصبح بعض قادتهم "ملوكاRoitelets" على قرى محدودة، وأخيرا دخلوا في حروب ضدّ بعضهم (أثبج ضدّ رياح وحمّاديون ضدّ زيريين!).

 

ظهرت قوّة سياسية مذهبية جديدة(1152) بعد قرن من وصول الأعراب، وهي القوّة الموحّدية التي جعلت من أبرز مهامّها إنهاء حالة الفوضى التي نشرها الأعراب،وتحرّك الجيش الموحّدي لفرض الأمن، فقضى على الأعراب في عدّة جهات،وعندما جمّعوا قواهم في سطيف سحقهم الجيش الموحّدي وقام بتوزيعهم في عدّة جهات لدمجهم والقضاء على شغبهم،ومع ذلك بقي البعض منهم يمثّل قوّة خاصّة عندما عقدوا أحلافا مع بعض كبريات القبائل الأمازيغية(38)، إلى درجة أنّ الحفصيين خلفاء الموحّدين في تونس لم يستنكفوا من استعمال الأعراب لتدعيم سلطانهم، ومثلهم فعل يغمراسن في تلمسان والمرينيون في فاس.

 

كان دخول هؤلاء الأعراب إلى الأرياف عاملا في خرابها، وتدهور العمران بسبب النهب والتدمير الذي تعرّضت له المدن في إفريقيّة خاصّة ، إلى الحدّ الذي جعل ابن خلدون يشبّههم بالجراد الذي يدمّر كلّ شيء يعترض سبيله (30).

 

من الغريب حقّا، بل من العجيب أن يحدث تحوّل إثنو-سوسيولوجي في شعب يعدّ بالملايين من قبل بضعة آلاف من البدو،وإذا أخذنا في الاعتبار المعلومات التي دوّنها فيكتور الفيتي (Victor de Vita) فإنّ عدد الوندال كان 80000 ، وهو عدد مساو تقريبا لعدد الأعراب الذين اكتسحوا أفريقيا في القرن الحادي عشر ، فما ذا بقي من الوندال في أفريقيا بعد قرنين من غزوهم لها ؟ . لقد محا الاحتلال البيزنطي الوجود الوندالي نهائيا وقد بحثنا عن المنحدرين من أولئك الوندال على امتداد أفريقيا ولكن دون جدوى، أمّا آثار اكتساح الأعراب للمغرب في القرن الحادي عشر فهي قويّة وبادية للعيان: استعراب القسم الأكبر من الشمال الأفريقي واعتبار دوله عربية ؟ .

 

ليس تراجع الأمازيغ من السهول نحو الجبال ولا خصوبة الأعراب هي التي تفسّر هذا الاستعراب(40) اللغوي العميق، فهؤلاء الأعراب وجّهوا في المقام الأوّل ضربة قاضية للحياة الحضرية من خلال النهب والتخريب والرعب الذي زرعوه في الأرياف الواسعة،كما أنّهم دفعوا الرحّل الزناتيين- وهم الذين يسمّهم غابريال كامبس البربر الجدد (Néo berbères)- الذين يشبهونهم في نمط العيش، إلى دخول إفريقيّة ونوميديا منذ القرن الحادي عشر، وهؤلاء الزناتيون مهّدوا لبداوة الأعراب فأقاموا بيئة مناسبة لأعراب هلال وسُليم ومعقل، ممّا سهّل على الأعراب في وقت لاحق دمج هؤلاء الزناتيين، بما للعربية لغة القرآن المقدّس – التي يتكلّم أولئك الأعراب إحدى لهجاتها- من بريق، وبذلك أدمجت قلّة من الأعراب الكثرة الكبيرة من أولئك الزناتيين لغة وثقافة (41) .

 

إنّ التماثل في أنماط الحياة سهّلت الاندماج،وجعلت رحّل الأمازيغ يعلنون بأنّهم عربا، لكسب اعتبار ومكانة الفاتح،وحتّى مقام "الشريف" أي المنحدر من النبي (ص)،كما أنّ الاندماج تيسّر قانونا فعندما تعلن قبيلة أمازيغية الولاء الجماعي لصحابي مثلا يكون لها حقّ الانتساب إليه كشكل من أشكال التبنّي الجماعي، وهذا تقليد وجد عند الأمازيغ أنفسهم، وهو ما سهّل هذا المسار، ولا ننسى في هذا المقام قصّة تبنّي الكاهنة لأحد أسراها العرب واعتبارها إياه ابنا ثالثا لها(خالد العبسي) وعلى العكس نادرا ما نجد عشيرة عربية متبربرة.

 

لقد امتدّت حركة الاستعراب بين قبائل الأمازيغ الرحّل وخاصّة الزناتيون إلى درجة أنّنا لا نكاد نجد اليوم إلاّ القليل من اللهجات الزناتية البدوية مثل اللهجة التي يتكلّمها بعض سكّان الورشنيس أو واحات الصحراء الشمالية (امزاب)، وكانت المجموعات الأمازيغية القوية من رحّل هوّارة وسط تونس وشمالها قد استعربت نهائيا في القرن الخامس عشر وانضمّت إليها عشيرة سُليم، كما أشار إلى ذلك مارسي ومنذئذ أخذت تونس طابعها الإثني واللغوي الحالي. إنّها البلد الأكثر استعرابا في الشمال الأفريقي كلّه، أمّا في المغرب الأوسط فإنّ القبائل الزناتية المستعربة أو في طريق الاستعراب حلّت محلّ القبائل الصنهاجية التي هيمنت طويلا قبل ذلك، وأسّس بنو عبد الواد الزناتيون دولة في تلمسان كما فعل إخوانهم المرينيون في المغرب الأقصى بإزاحة آخر ملوك الموحّدين وأقاموا على أنقاضهم الدولة المرينية .

 

هناك عامل آخر للاستعراب أهمله مؤرّخو الشمال الأفريقي، وهو تفكّك القبائل التي كانت قد لعبت أدوارا هامّة، فقد تلاشت فاعليتها، واندمجت في الحركات العسكرية وفي الحملات التي أرسلت بعيدا عن مواطنها، مثل كتامة في القبائل الصغرى الشرقية التي كانت راسخة في إقليمها الجبلي،وساهمت كما رأينا في إقامة الخلافة الفاطمية،وقد جنّدت من أبنائها فيالق حاربت في كلّ أنحاء الشمال الأفريقي وصقلية ومصر،وقد توزّع أبناؤها في كلّ الحاميات العسكرية، وعدد كبير منهم قضى نحبه في تلك الحروب، ومن بقي من كتامة اليوم بقي معزولا في إقليمه الجبلي ما بين القلّ وجيجل تميّزهم لهجتهم الخليط من الأمازيغية والعربية .

 

إلى جانب مجموعات الأمازيغ الرحّل الذين استعربوا وأصبحوا عامل تعريب لباقي الأمازيغ، نضيف العامل السياسي،حيث لم يكن الأمراء والملوك الأمازيغ يتردّدون في استعمال الأعراب في صراعاتهم ضدّ بعضهم،فكأنّهم بذلك أطلقوا أيدي هؤلاء الأعراب في البلاد،فعاثوا فيها فسادا واكتسح الاستعراب البدوي(42) كل الجهات مصحوبا بالنهب والخراب، وهو الداء الذي سينخر الدويلات البربرية ذاتها، ومنذئذ انحصرت اللغة الأمازيغية في مناطق محدودة محتمية بالكتل الجبلية !، مع بعض الاستثناءات في التفاصيل، فقد ظلّت بعض السهول مجالا للرعي والترحال للرحّل الأمازيغ في الصحراء الوسطى والجنوبية (في الجزائر،مالي والنيجر) وفي الجنوب الغربي حيث قبيلة آيت عتّا المتمركزة في جبل سارغو،محافظة على نمط نصف بدوي أمازيغي،بين المجموعة المستعربة في تافيلالت [التي أنجبت العائلة الشريفية الحاكمة في المغرب] وبدو الرقيبات في الصحراء الغربية الذين هم خليط من الأمازيغ وأعراب معقل، وهذا دون نسيان الرحّل الأمازيغ من مجموعة آيت زيان في الأطلس الأوسط من قبائل: آيت زيّان ، بني مجيلد ، آيت سغروشن ….

 

إنّ اللغة الأمازيغية هي لغة الحضر أيضا كما هي لغة الجبليين، بل لا تزال في جزيرة جربة وفي المدن الميزابية الخمس (Penta polis M zabites) وواحات توات وقورارة، وسهول الساحل الصحراوي التي يرتادها توارق كال غريس (Kel Grès) وتوارق كال دينّك (Kel Dinnik) وتوارق أوليميذن (Ouillimiden) فهذه الجهات على غرار الجبال المغربية والقبائلية هي أيضا لا تزال ناطقة بالأمازيغية(43).

 

لا ينبغي أن نتصوّر بأنّ المستعربين في الشمال الأفريقي كلّهم بدو رحّل، فقد استقرّت مجموعات مستعربة منذ قرون وألفت حياة الاستقرار حول المدن وفي الأرياف القريبة منها،فسكّان الجبال الساحلية في شرقي الجزائر وشمالي تونس استعربوا منذ أمد بعيد حتّى قبل غزوة الأعراب، إلاّ أنّ الملاحظ هو أنّ المناطق التي لا تزال محافظة على اللغة الأمازيغية هي في الواقع في أغلبها مناطق جبلية أو نائية وهي كالحصن أو الملجأ للغة أجليت عن مدن السهول الخصبة التي استولى عليها الاستعراب البدوي، وهذا ما جعل الشمال الأفريقي في القرن التاسع عشر يواجه اختلالا عجيبا: جبال وتلال فقيرة آهلة بالسكّان يسكنها فلاّحون، وسهول خصبة واسعة يرتادها مربّو أغنام، فالجبال هي حصون الفلاّحين المزارعين المستقرّين الذين أجبرتهم غزوة الأعراب ورحّل الأمازيغ المستعربين على التخلّي عن أراضيهم في السهول (44).

 

يخطئ من تذهب به الظنون أنّ الزحفة الهلالية وحدها عرّبت الأرياف الأمازيغية، لقد بدأ الاستعراب من الحواضر منذ بدايات الفتح الإسلامي، واعتمدته الإدارة في كلّ الدول البربرية الإسلامية، ولذلك لم نر اصطداما لغويا بين أعراب الزحفة والأمازيغ، بل إنّ الاحتمال الكبير هو أنّ الأعراب تخلّوا تدريجيا عن لهجتهم التي كانوا يتحدّثونها في الشرق واندمجوا في عربية أفريقيا الشمالية، فهناك مؤشّرات عديدة ينبغي على المهتمّين والمتخصّصين في الألسنية أن يولوها العناية في هذا السياق(45).

 

مهما تكن أصول الأمازيغ المحافظين الذين يسكنون الجبال: زناتيون أو صنهاجيون أو كتاميون فإنّهم يمثّلون كمّا ديمغرافيا كبيرا في أراضي محدودة المساحة والانتاج، وهو ما يدفع إلى الهجرة نحو الجهات المستعربة خاصّة من الجبال القبائلية نحو مدن الداخل، وهذا ما يجعل هؤلاء يفقدون لغتهم الأمازيغية عند الاستقرار هناك،حيث ظروف الحياة مغايرة وحيث تعقَد الزيجات المختلطة (46) ، وهذا أيضا من عوامل تفاعل الاستعراب الذي لم يتوقّف إلى الآن، مع أنّ هذا الاستعراب كان يمكن أن يتفاعل وأن يتسع دون أن يطمس الركيزة الثقافية الأولى للشعب، وإذا أضفنا عشرات الآلاف من المعلّمين الذين استقدمتهم بلدان الشمال الأفريقي (خاصّة ليبيا والجزائر) من الشرق الأوسط بعد استقلالها على امتداد سنوات لتعريب شعبها الأمازيغي نعرف حجم ما تواجهه اللغة الأمازيغية التي تحتضر الآن وتعيش آخر أيّامها (47).

الفئة: مقالاتي | أضاف: الامازيغ (2014-05-18)
مشاهده: 260 | الترتيب: 0.0/0
مجموع التعليقات: 0
الاسم *:
Email *:
كود *:

Copyright MyCorp © 2024